نهضت الحضارة العقلية العلمية الإسلامية على عمودين راسخين هما السؤال والتجربة، وعندما توقفت جسارة السؤال، وعندما غلبنا حفظ وتسميع وتلقين النصوص القديمة على التجربة العلمية العملية، وعندما انتصرنا لأصوات الفقهاء المتزمتين على صوت العقل والتجديد والاجتهاد، وظللنا نعيش على شرح الشروح وتفسير التفاسير وكتابة الهوامش الجديدة على المتن القديم، عندها انهارت الحضارة الإسلامية العلمية الرائعة التى كانت فى بغداد ومصر والشام والأندلس وفارس، وصارت أطلالاً تعيش على فتات الماضى والذكريات الخوالى، أقصى ما يفعله أبناؤها الآن هو أن يكتبوا عن الإعجاز العلمى ويسخروا من حضارة الغرب فى نفس الوقت الذى يستهلكون فيه بنهم نتاج تلك الحضارة التى لا يساهمون فيها بأى معجزات أو منجزات علمية.

الحسن بن الهيثم هو مثال واضح لتطبيق تلك الثنائية الرائعة، ثنائية السؤال والتجربة، فنحن قد حفظنا ونحن صغار قصة عبقرية ابن الهيثم فى اكتشافه نظرية سقوط الضوء من الأشياء على العين وليس خروجه من العين كما كان يقول القدماء، ودرسنا فى كتاب القراءة الرشيدة عن خطته لبناء السد فى زمن الحاكم بأمر الله فى نفس موقع سد أسوان... إلخ، ولكننا لم نعرف كيف وصل الحسن بن الهيثم، هذا العقل الجبار ابن الحضارة الإسلامية الزاهرة، إلى هذه الاكتشافات؟ ببساطة لأنه اتبع المنهج العلمى، بل هناك من قال بأنه واحد من أهم وأوائل مبتدعى المنهج العلمى فى التفكير، فهذا العملاق الذى ساهم فى علم الضوء والميكانيكا والفلك والهندسة والرياضيات والفلسفة وعلم النفس، وحتى الموسيقى التى كتب عن تأثيرها على سلوك الحيوانات!! هذا الرجل العظيم وصل إلى كل هذا ليس عن طريق حفظ أقوال القدماء، وليس بالتسليم والإذعان وشعار «هى كده واحفظها زى ما هى»! لكنه وصل إلى كل هذا المجد عن طريق السؤال والتمرد على القديم وإخضاع كل شىء للتجربة، حتى وهو مسجون كان ثقب الجدار وخيط الضوء النافذ منه هو بداية تجربته لاختراع الكاميرا فيما بعد.

قبل أن يعدد تلاميذنا فى المدارس ويحفظوا اكتشافاته وعناوين كتبه التى اقتربت من المائة كتاب، قبل أن نطلب منهم الإجابة عن سؤال إسهاماته فى علوم الضوء، لابد أن نطلب منهم الإجابة عن سؤال: كيف وصل عقله إلى هذه الاكتشافات؟ إنها حرية العقل وعدم الوصاية من كهنوت القديم، فكل ما قرأه ابن الهيثم لعمالقة العلم فى عصره أخضعه للسؤال والتجربة، حتى كلام بطلميوس وأرسطو الذى كان كلاماً مقدساً لا يُمس، وضعه ابن الهيثم على طاولة التشريح والسؤال والرفض، ولنقرأ بعض الاقتباسات من ابن الهيثم التى تفك لنا شفرة العقل الذى تمرد فنجح فتحضر وبعدها احتضر.

يقول ابن الهيثم: «إن الباحث عن الحقيقة ليس هو من يدرس كتابات القدماء على حالتها ويضع ثقته فيها، بل هو من يُعلّق إيمانه بهم ويتساءل ما الذى جناه منهم، هو الذى يبحث عن الحجة، ولا يعتمد على أقوال إنسان طبيعته يملؤها كل أنواع النقص والقصور، وبالتالى فإن من الواجب على من يحقق فى كتابات العلماء، إذا كان البحث عن الحقيقة هدفه، أن يستنكر جميع ما يقرؤه، ويستخدم عقله حتى النخاع لبحث تلك الأفكار من كل جانب، وعليه أن يتشكك فى نتائج دراسته أيضاً، حتى يتجنب الوقوع فى أى تحيز أو تساهل».

«البحث عن الحقيقة فى حد ذاتها أمر صعب، والطريق إلى ذلك وعر، فالحقائق يكتنفها الغموض... الله لم يعصم العلماء من الخطأ، ولم يحم العلم من القصور والنقص، لو كان هذا هو الحال لما اختلف العلماء على أى من مسائل العلم».

«سعيت دوماً نحو المعرفة والحقيقة، وآمنت بأنى لكى أتقرب إلى الله، ليس هناك طريقة أفضل من ذلك، من البحث عن المعرفة والحقيقة».